عندما يكذب الحمض النووي: قصة الأم التي كانت «توأمًا» لنفسها
في عالم الطب والعلوم الجنائية، تسود قناعة راسخة نادرًا ما يُشكّك بها: الحمض النووي (DNA) لا يكذب. فهو البصمة البيولوجية الفريدة التي تُستخدم لإثبات الهوية، والنَّسب، وحتى البراءة أو الإدانة في المحاكم. لكن ماذا لو كان هذا اليقين العلمي نفسه سببًا في اتهام أم بريئة، وكاد أن يدمّر حياتها وينتزع أطفالها منها؟
هذه هي القصة الحقيقية لـ ليديا فيرتشايلد، المرأة التي وقفت أمام المحكمة لتُثبت أنها أمّ أطفالها، في حين كانت الفحوصات الجينية تؤكّد، بشكل صادم، أنّها لا ترتبط بهم بيولوجيًا.
البداية: صدمة غير متوقعة
في عام 2002، وفي ولاية واشنطن الأمريكية، تقدّمت ليديا بطلب روتيني للحصول على إعانة حكومية لأطفالها بعد انفصالها عن زوجها. وكجزء من الإجراءات القانونية، طُلب منها الخضوع لفحص الحمض النووي لإثبات الأبوة والأمومة.
ظهرت النتائج كالصاعقة:
• الزوج السابق تبيّن أنّه الأب البيولوجي بلا شك.
• أمّا ليديا، فجاءت النتيجة واضحة: ليست الأم البيولوجية للأطفال.
تحوّل الإجراء الروتيني إلى كابوس حقيقي. وُجّهت إلى ليديا اتهامات بالاحتيال، بل وبخطف الأطفال أو اللجوء إلى رحمٍ بديل دون تصريح قانوني. أصبحت مهدّدة بالسجن وبسحب أطفالها منها، رغم أنّها كانت تتذكّر آلام الحمل والمخاض، ولحظات ولادة كل طفل من أطفالها.
ذروة اللغز: الشاهد الصامت
أثناء سير المحاكمة، كانت ليديا حاملاً بطفلها الثالث. قرّر القاضي أن تكون هذه الولادة هي الدليل الحاسم في القضية. وُضعت ليديا تحت مراقبة طبية صارمة، وبعد الولادة مباشرة، سُحبت عينات دم منها ومن مولودها داخل غرفة الولادة نفسها.
لكن النتيجة كانت أكثر صدمة من سابقتها:
حتى هذا الطفل الذي خرج من رحمها، لم يكن يحمل حمضها النووي.
في تلك اللحظة، بدا العلم التقليدي عاجزًا عن التفسير، وبدأ البحث عن سبب نادر وغير مألوف لما يحدث.
⸻
الحل: «الشبح الجيني»
بفضل محامٍ متنبّه وطبيب مختص في الوراثة، تم الوصول إلى الحقيقة المذهلة. لم تكن ليديا تكذب، ولم تكن الفحوصات خاطئة. بل كانت تعاني من حالة وراثية نادرة جدًا تُعرف باسم الخيمرية (Chimerism)، أو ما يُطلق عليه أحيانًا «الشبح الجيني».
⸻
ماذا حدث علميًا؟
في بداية حياة ليديا الجنينية، كانت في الأصل حاملاً بتوأم. وخلال مراحل مبكرة جدًا من الحمل، امتصّ أحد الجنينين الآخر واندُمج به. نتيجةً لذلك، نشأت ليديا بجسد واحد، لكن بتركيبتين وراثيتين مختلفتين، أي بخطّين خلويين (Two Cell Lines).
- التركيبة الوراثية الأولى: موجودة في دمها، وجلدها، وشعرها، وهي التي أُخذت منها عينات الفحص الجيني.
- التركيبة الوراثية الثانية: تعود للتوأم الذي لم يولد، وقد استقرّت في مبايضها وجهازها التناسلي.
وبذلك، كانت ليديا، من الناحية البيولوجية، تُنجب أطفالًا يحملون الحمض النووي الخاص بتوأمها غير المولود، لا الحمض النووي الذي يظهر في دمها.
أُم أَم خالة؟
من الناحية الجينية البحتة، بدت ليديا وكأنها خالة أطفالها.
لكن من الناحية البيولوجية، والنفسية، والإنسانية، كانت — ولا تزال — أمهم الحقيقية: حملتهم، وأنجبتهم، وربّتهم، وعاشت معهم كل تفاصيل الأمومة.
الخلاصة
قصة ليديا فيرتشايلد ليست مجرد حالة طبية نادرة، بل تذكير قوي بأن العلم، مهما بلغ من دقة، قد يكون معقّدًا وغير مطلق. فالحمض النووي قد لا «يكذب»، لكنه أحيانًا لا يروي القصة كاملة.
وفي تلك المساحة الصغيرة بين العلم والإنسان، كادت أم أن تخسر أطفالها… لولا أن الحقيقة، مهما كانت نادرة، تجد طريقها إلى النور.
